ظهر المسيح بعد قيامته لتلاميذه أربعين يوماً، يعلمهم ويدرّبهم ويحدّثهم عن المستقبل، وطلب منهم أن يقيموا في أورشليم إلى أن ينالوا قوة من الأعالي. وبعد الأربعين يوماً صعد المسيح للسماء، وأرسل الروح القدس بعد ذلك بعشرة أيام، بينما كان الجميع مجتمعين معاً بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت عل كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس.
"ألسنة منقسمة كأنها من نار" وقد قال يوحنا المعمدان: "أنا أعمّدكم بماء للتوبة. ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار" (متى 11:3).
ترى ما هي هذه المعمودية التي تكلم عنها المعمدان؟ ولماذا وصف الروح القدس في عمله بالنار؟
1- النار تكشف وتظهر
الروح القدس في حياة كل إنسان مؤمن يظهر له ذاته وحقيقة حاله. إننا نميل كثيراً أن نخفي حقيقة ذواتنا عن أنفسنا، وأن نقنع أنفسنا بأننا أبرار، لكن روح الله هو الذي يظهر لنا الحقيقة، ويرينا أننا في الموازين إلى فوق، وأننا جميعاً خطاة، نحتاج إلى روح الله ليعلن لنا حقيقة ذواتنا.
2- النار تطهّر وتنقّي
والأمر الثاني الذي تفعله النار هي أنها تطهر وتنقي. لو أن الروح القدس كشف لنا عن خطايانا وتركنا، لما عرفنا كيف نتطهّر منها، ولكانت هذه مأساة لنا! لكن الروح الذي يُظهر لنا خطايانا، يطهّرنا كالنار التي تنقّي الفضة والذهب... ينقي الروح القدس المؤمن من خطاياه. فالشوائب التي تعلق بحياتنا من الخارج تُنقَّى بماء كلمة الله، لكن الشوائب التي في داخلنا تتطهر بنار الروح القدس، فهو يحرق ما فينا من زغل وشوائب وآثام علقت بنا ولا تزال ساكنة في قلوبنا من بقايا الإنسان العتيق.
3- النار تنير
ثم أن النار تنير. والروح القدس ينير لنا الحياة ويعطينا إرشاداَ. في يوم الخمسين – الذي امتلأ فيه بطرس ومن معه بالروح القدس – وقف بطرس يتحدث بكلمة استخدم فيها آيات من الكتاب المقدس - لست اعتقد أن بطرس نفسه كان يعرف تفسيرها لولا أنه امتلأ بالروح القدس - فالروح هو الذي نوَّر قلبه.
4- النار تعطي دفئاً
ثم أن النار تعطي دفئاً ووهجاً. نحن نستمع إلى عظات كثيرة من خدام كثيرين مرتبة ومنظمة، ولكن نسمع عظة على فم خادم بكلمات بسيطة تؤثر في قلوب لم تتأثر بمن هو أكثر علماً وفناً وخطابة. كيف؟ تأتينا الإجابة عن هذا السر البسيط: إنه الروح القدس. كان روح الله عاملاً في هذا الإنسان البسيط لأن روح الله كالنار يبعث دفئاً ويقدِّم طاقة لم يستطع ذلك الواعظ البليغ المفوّه أن يأتي بمثلها، لأنه لم يكن يتكلم بروح الله. إن الروح القدس في الخادم يرسم هذه الهالة التي تربح الآخرين للمسيح، ويعطي هذه الطاقة التي تقود الآخرين إلى المسيح.
5- النار تنتشر
ثم النار أيضاً تنتشر. فحيثما تشبّ في مكان تنتشر بسرعة، وإن لم يتداركها القوم فإنها تأتي على كل ما يحيط بها. والروح القدس كالنار ينتشر من إنسان إلى إنسان. لو أن كل المسيحيين نالوا هذا الملء من الروح، لما رأينا العالم يتخبّط في الظلمات، ولما رأينا الناس يتحيَّرون بين الحق والباطل، لأن كلمة الله سوف تنتشر في العالم وسوف تربح الجميع للمسيح.
قال يوحنا المعمدان: "يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحلّ سيور حذائه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار". ما أحوجنا إلى هذه النار التي تظهر لنا حقيقتنا، والتي تطهرنا من آثامنا، والتي تحرق الخطايا والشرور فينا، والتي تؤثر في الآخرين، والتي تنتشر في العالم كله.
ولكن كيف ننالها؟
في لحظة إيمان المؤمن بالمسيح يسكن الروح القدس في حياته. ولكن بعد هذه اللحظة كثيراً ما نطفئ الروح. فإن أردنا أن نتمتع بهذا الملء إلى النهاية فلا بد أن نتوب عن كل خطية، وأن نفرّغ أنفسنا من حياة العالم، وأن نحيا حياة الطاعة للمسيح، وإذ ذاك نمتلئ فعلاً بروح الله ( اذكروني علي مذبح صلواتكم والرب يباركم