عندما تتردد كلمات هذا السؤال في جنبات الكنيسة الغربية يتباري العارفون ببواطن الأمور فى الإجابة بكل فصاحة بالقول: إن ولادته جاءت في يوم 25/12 وهذا في رأيهم تاريخ لا يقبل الجدل أو النقاش لكونهم ارتكنوا علي النص الكتابي الذي ورد علي لسان يوحنا المعمدان حين قال قولته المشهورة: "ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص" (يو3: 30)
ولما كانت ولادة المعمدان قبل ميلاد المسيح بستة أشهر (لو21: 26) فلقد عينت الكنيسة يوم ميلاده في 24 حزيران (يونيو) أي عندما يأخذ النهار في النقصان؛ وعيد ميلاد المسيح في 25 كانون الأول (ديسمبر) أي عندما يأخذ النهار في الزيادة!! وقد بدأ الاحتفال به في هذا التاريخ اعتباراً من القرن الرابع الميلادي.
أما الكنيسة الشرقية فلها رأي آخر معتبرة أن السابع من كانون الثاني (يناير) هو يوم ميلاد المسيح متبعة في ذلك التقويم الفرعوني القديم الذي يطابق المواسم الزراعية حيث يبلغ طول السنة فيه 365 يوماً + 6 ساعات، وبذا يفترق طول السنة الشمسية الذي يقوم عليه التقويم الغربي 365 يوماً + 5 ساعات + 46 ثانية عن السنة القمرية بمقدار 11 دقيقة + 14 ثانية كل عام، وهذا الفرق يتجمع فيصل إلي يوم كامل في كل 128 سنة، فإذا ضُرب هذا الفرق (11 دقيقة تقريباً) في هذه القرون العديدة منذ ميلاد المسيح حتي الآن نتج فرق هو عبارة عن 13 يوماً تقريباً، وهذا هو الفرق بين 25 ديسمبر و7 يناير..
ولقد اصطلح المصريون علي تحديد عيد الميلاد يوم 29 كيهك الذي يقابل 7 يناير!
إلا أن هناك رأياً آخر مختلفاً تماماً عما سبق ذكره آنفاً فحواه أنه يستحيل حدوث ميلاد المسيح في أي من التأريخين المعترف بهما سواء شرقاً أو غرباً، حيث أنه في هذين التوقيتين يكون الطقس في هذه البقعة الجغرافية شتوياً قارص البرودة وهذا ما لا يتفق مع وجود رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل علي رعيتهم بحسب وصف البشير لوقا (2: 8-10) "وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفاً عظيماً فقال لهم ملاك الرب: لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب".
نعم.. فنحن لا نعيد تاريخاً محدداً شرقياً أو غربياً.. لكننا نعيد حدثاً مباركاً أنبأتنا به السماء.. إننا نعيد فجراً جديداً بولادة المشرق من العلاء.. إننا نعيد عهداً فريداً بتجسد الكلمة ذا البهاء.. إننا نعيد زمناً مجيداً لسنة الرب المقبولة للفداء.. إننا نعيد فرحاً سعيداً تغنت فيه الكواكب في الفضاء.. إننا نعيد مولداً بهيجاً تسابقت فيه الموسيقي والحناجر بالغناء.. إننا نعيد به.. وله.. وفيه..
ولازلنا مع البشير لوقا والأصحاح الثاني والأعداد من 8-14 حيث ورد بهذه الأعداد الوصفية أربع مرات حرف الجر "في" ووجدت في كل مرة منها شيئاً جديراً بالتأمل أود أن أشارككم به:
أولاً: في تلك الكورة (لا تخافوا)
لاشك أنها ليلة ليلاء سواء في ظلامها.. أو في بردها.. فليل الشتاء سريعاً ما يرخي ويسدل أستاره.. وينشر ظلامه علي كل الربوع.. وفي تلك الكورة أيضاً!! إلا أن السماء كان لها رأي آخر في ليلة هذا اليوم؛ إذ أن نوراً عظيماً سيشرق علي الجالسين في الظلمة وفي ظلال الموت.. فها هو ملاك الرب ببشارته الخالدة المدوية كلماتها عبر كل العصور والأزمان يرددها جميع الفارحين المعيدين.. فهي بشارة تطمين ورجاء!!
ولا عجب أيها الأحباء أن تكون الكلمة الأولي في هذه البشارة الإنجيلية المباركة هي "لاتخافوا" نعم فكان لابد أن يبدأ الإنجيل المفرح المبهج من نفس النقطة التي توقف عندها آدم في جنة عدن!!
إذ أنه بعدما أخطأ امتلأ من الخوف والخشية ألم تكن إجابته الفورية عندما رن في أذنيه صوت الرب: آدم أين أنت؟؟ سمعت صوتك فخشيت (خفت) لأني عريان فاختبات (تك3: 10) لا يا آدم.. ويا كل نسله من بعده.. لا تخافوا.. فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب" (لوقا2 :10)
إن الخوف لا يتماشي مع فرحة ميلاد الفادي الآتي لكي يرفع خطية العالم (يو1: 29) الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده علي الخشبة (1بط2: 24)
ثانياً: في مدينة داود (لا تحزنوا)
عجيب أمر هذه التخطيطات الإلهية المذهلة.. فإن بشارة الفرح تأتي في أرض الدموع والتوجع والحزن!! فهذه المفجعات الزمنية لا يمكن أن تداويها الوصفات البشرية أو الجلسات النفسية وإنما التدخلات السماوية.
هل تتذكر معي قارئي العزيز ماذا تعني مدينة داود؟ ماذا يدور في ذهنك عندما تقرأ الأقوال الكتابية عن أن بشارة الفرح جاءت في بيت لحم؟؟
إنها منطقة وموقع التأوه والنحيب..!!
لقد دفنت فيها المحبوبة راحيل بعد ولادتها لوليدها الثاني الذي أطلقت عليه لفرط ألمها وتوجعها "ابن أوني" الذي يعني "ابن حزني"!!
ألم يقل الكتاب في (مت 2: 12) ليصف حزن راحيل وإن كان لمعني آخر: "صوت سمع في الرامة نوح وبكاء وعويل كثير.. راحيل تبكي علي أولادها ولا تريد أن تتعزي لأنهم ليسوا بموجودين"
إلا أن يعقوب رجل الإيمان أطلق عليه اسم "بنيامين" الذي يعني "ابن يميني".
ثالثاً: في مــــــــذود: (لا تشكوا)
يا للعار.. يا للشنار.. يا للمعاملة الجوفاء التي تفتقر إلي كل إحساس سام رقيق.. أهذا ما يلقاه رب السماء من الترابيين الأرضيين!!؟؟
أهذا ما تقدمه الخليقة لخالقها.. أليس عجيباً أمر هذه الأرض؟
** إنها تقدم لهيرودس صاحب الدم المختلط (يهودي وأدومي) عرشاً ملكياً بينما لا تمنح لرب المجد سوي مذود خشبي سمر بيد إنسان.
** إنها تقدم لحنان وقيافا الراشيين كهنوتاً بينما ملكي صادق – الأبدي – نائم بين الحيوانات.
** إنها تقدم لهيروديا وابنتها احتفالات وهدايا بينما تشتم أنف ابن الله روائح الروث الحيواني التي تملأ موضع مولده.
** عندما جاع قدم إليه حجر ليحوله خبزاً، وهو الذي خلق الأشجار والأثمار.
** عندما عطش أعطوه خلاً ممزوجاً بمـر وهو الذي فجر الأنهار والبحـار.
لقد بدأ خدمته جائعاً.. وهل يجوع خبز الحياة؟
ولفظ أنفاسه الأخيرة علي الصليب عطشانا؟؟ وهل يعطش الماء الحي؟
عندما مات جعل مع الأشرار قبره.. إذ أحصي مع أثمة..!!
يا لها من صدمة.. وصدمات رافقته كل حياته منذ مولده وحتي موته.. إذ أنه حرم حتي من أبسط الحقوق الشرعية العادية للإنسان فلم تكن له..
• فعند مولده.. لم يكن له موضع في المنزل.
• وفي معيشته اليومية.. أعلنها يوماً في إحدي حواراته المقنعة:
"للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار.. وأما ابن الانسان فليس له أين يسند رأسه" (مت8: 20 و لو 9: 58)
• أما عند موته قال عنه دانيال بالنبوة "يقطع المسيح الرئيس وليس له" (9: 25)
وقد قيل تعليقاً علي هذا النص أن التعبير "ليس له" مقصود به أنه لن يملك هذه المرة لأن المهمة الأساسية هي الفداء.
وقال آخرون "ليس له" تعني أنه قطع ليس من أجل نفسه.. إنما من أجل البشرية كلها ممثلة في الذين رفضوه ولم يفسحوا له مكاناً..
رابعاً: في الأعالــــــي: (لا تسكتوا)
إن الهدف الحقيقي من البشارة والإنجيل هو مجد الله
فمجد الله أضاء حولهم 2: 9 والمجد لله في الأعالي 2: 14
ومجد الله يعلن بواسطة التسبيحات السماوية من جوقات الملائكة.. والأرضية من جموع المفديين..
وبحسب العُرف السائد في أورشليم.. إنه عندما يولد طفل ذكر فإن عازفين مخصصين ومنشدين محترفين لمثل هذه المناسبات يؤدون ألحانهم فيشيعون جواً من البهجة والفرحة علي جميع الحاضرين لاسيما الأسرة التي رزقت بهذا المولود الجديد..
ويعلق بعض المفسرين بالقول: إنه عندما تأخرت الفرقة الأرضية عن أداء دورها احتفاء بالمولود السماوي أنشدت جوقة من الجند السماوي أنشودتها الخالدة:
المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام وبالناس المسرة
فامتلأ الجو العام بالسرور وعلا البشر وجوه الجميع.. وتسابقت الألسنة والأفواه في تقديم السُبح والمجد لله..