يرتبط مفهوم الخلاص في المسيحية بثلاثة أحداث تاريخية لا نظير لها في سياق الوجود البشري. هذه الأحداث هي ولادة المسيح المعجزية، وصلب المسيح الكفاري لفداء الإنسان، وقيامة المسيح في اليوم الثالث من بين الأموات.
هناك علاقة دقيقة بين موضوع الصليب، وموضوع القيامة، أو الفصح كما يدعوه المسيحيون؛ فلا قيامة من غير صلب، ولا مغزى للصلب من غير قيامة. كلاهما أمران حتميان في اللاهوت المسيحي ولا غنى لأحدهما عن الآخر، بل إن القصة الحقيقية للخلاص لا تكتمل بدونهما.
وحكاية القبر الفارغ هي حكاية الكنيسة في جهادها، وكرازتها، وتضحيتها، ونموها، وانتصارها على قوات الشر الروحية، وعلى جميع المقاومات البشرية التي عملت على هدم هذا الصرح الجبار، فأخفقت لأن القيامة هي حياة والحياة الروحية لا تموت بل تحيا بقوة مصدرها الحي الرب يسوع المسيح. لهذا أصبح القبر الفارغ رمزاً للانتصار والرجاء الأعظم لكل مؤمن. والواقع إن قيامة المسيح من بين الأموات قد دخلت في سجلات المؤرخين حتى غير المسيحيين. يمكن لأي قارئ أن يرجع إلى كتاب "هل صلب المسيح حقاً؟ فيجد بين طيات صفحاته إشارات إلى هذه السجلات التي دوَّنها المؤرخون الرومانيون، بعضها كشائعات، وبعضها الآخر كواقعة حدثت.
ولكني اليوم أريد أن أنظر إلى هذا الموضوع بمنظار الكتاب المقدس وعلى ضوء معطيات الإعلان الإلهي، وشهادة الرسل، والكنيسة الأولى. فمنذ أن استهلّ الرب يسوع المسيح خدمته الأرضية، شرع يعدّ تلاميذه لمواجهة الحدثين الأكبرين في حياته وهما صلبه وقيامته.
كان متعذراً على التلاميذ أن يستوعبوا فكرة الصلب في الدرجة الأولى. فإن كان المسيح هو حقاً المسيا المنتظر الذي كان الشعب اليهودي يتوقع مجيئه، فكيف يمكن أن يُصلب كمجرم؟ ألا يقول الكتاب: ملعون كل من عُلّق على خشبة؟ ثم كيف للمسيا المنتظر، أن يموت هذه الميتة الشنيعة؟ إن المسيّا لم يأتِ ليموت بل ليؤسس مملكة قوية جبارة يخضع لها العالم، ويحرر الشعب من عبودية الغرباء وعلى رأسهم الدولة الرومانية. والحقيقة المحزنة أن التلاميذ لم يدركوا مرمى مجيء المسيح ومعنى صلبه وقيامته إلاّ بعد حلول الروح القدس عليهم في يوم الخمسين. إن المتأمل في الإصحاح الأول من أعمال الرسل، وفي مطلع هذه السفر قبل صعود المسيح إلى السماء، يَعجب لغباء هؤلاء التلاميذ وعدم إدراكهم مغزى مجيئه؛ فحتى تلك اللحظة سألوه متى يُرَدُّ المُلك لإسرائيل. كان كل تفكيرهم منصبّاً على أمور أرضية لا علاقة لها بغرض مجيء المسيح. فكم من مرة تحدَّث المسيح عن ملكوته السماوي وأعلن أن مملكته ليست من هذا العالم، وأنه لم يأتِ ليردّ ملكاً أرضياً لإسرائيل، بل إن خاصته التي جاء من أجلها أولاً رفضته، واضطهدته وصلبته. هذه الحقيقية لم يعِها التلاميذ.
ولكن القبر الفارغ كشف في الماضي كما يكشف اليوم عن الأمور التالية:
أولاً، إن كل النبوءات التي أشارت إلى قيامة المسيح قد تحقّقت، ولا سيما ما نطق به الرب نفسه. ويكفي أن أشير هنا إلى أن المسيح عندما التقى مع التلميذين اللذين كانا في طريقهما إلى عمواس، وحاورهما حول الأوضاع السائدة، والأحداث الهائلة التي وقعت ذلك الأسبوع في أورشليم، وجد أنهما، على الرغم من كل تعليمه، ما برحا جاهلين بفهم النبوءات عنه، فوبخهما بشدة قائلاً: "أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده. ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب” (لوقا 25:24-27).
في هذه الأعداد القلائل أجمَلَ الإعلان الإلهي أن النبوءات وأسفار العهد القديم قد تضمنت صراحة أو رمزاً قصة الصلب والقيامة، وأن هذين الحدثين هما في صميم الحق المسيحي، وأن ظاهرة القيامة بصورة خاصة، هي ذروة إتمام القصد الإلهي من مجيء المسيح وكفارته.
ثانياً، إن القبر الفارغ والجثة المفقودة كانا دليلين على غلبة الحياة على الموت. هتف الرسول بولس قديماً ببهجة لا تضاهيها بهجة قائلاً: "أين غلبتك يا موت؟ أين شوكتك يا هاوية؟" إن موت المسيح وقيامته حطّما شوكة الموت وأفقدا الهاوية قوتها. فكل من يؤمن بموت المسيح وصلبه وقيامته هو ابن الحياة، واسمه مكتوب في سفر الحياة. ألم يقل المسيح عن نفسه أنه هو الحق والقيامة والحياة؟ ألم يعلن ذلك بقوة وعلى مشهد من الجماهير التي احتشدت حول قبر أليعازر في خطابه لمريم إذ قال: "أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد" (يوحنا 26:11). فالقبر الفارغ، والجثة المفقودة كانا برهاناً عملياً على قيامته. وقد تأيد هذا البرهان بظهورات المسيح ما بين قيامته وصعوده. ولم تكن هذه الظهورات محض أوهام وخيالات بل كانت حقائق ملموسة شاهدها التلاميذ بل أكثر من التلاميذ. ولا بدّ لي هنا أن أقتبس ما جاء في (سفر أعمال الرسل 3:1)،
"الذين أراهم أيضاً نفسه ببراهين كثيرة بعد ما تألم وهو يظهر لهم أربعين يوماً ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله."
وورد أيضاً في رسالة بولس الرسول الأولى لأهل كورنثوس 5:15-8، ما نصّه:
"وإنه (أي المسيح) ظهر لصفا (أي بطرس) ثم للاثني عشر. وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمئة أخ، أكثرهم باق إلى الآن، ولكن بعضهم قد رقدوا. وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين، وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا."
والواقع أن العهد الجديد يكتظ بالآيات التي تشير إلى قيامته وظهوراته والتي لا يتسع المجال لذكرها هنا. ولعلّ في مقالات عدد الفصح من هذه المجلة يجد القارئ مراجع أخرى عديدة عن براهين القيامة.
ثالثا، إن القبر الفارغ والجثة المفقودة هما الحافز الذي دفع الكنيسة منذ بواكير عهودها على حمل رسالة الإنجيل إلى العالم أجمع. ورسالة الإنجيل هي رسالة محبة، وقوة، وغفران، وحياة أبدية. تتوقّف هذه جميعها على حقيقة واحدة هي حقيقة القيامة. فالمسيحية أصلاً ليست مجموعة عقائد صيغت في بناء محكم، ولكنها في واقعها إيمان بشخص حيّ هو محور الإيمان المسيحي؛ وما العقائد سوى نتيجة حتمية للإيمان بهذا الشخص. فهل كرز التلاميذ والرسل بشخص مات وانتهى أمره كما حدث مع بقية الأنبياء، أم أن المسيحية تدعو للإيمان بفادٍ انتصر على الموت وقام ممجداً بعد أن كفّر عن خطايا كل من يؤمن به إيماناً قلبياً صادقاً؟ يقول بولس الرسول إلى أهل كورنثوس في رسالته الأولى:
فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب (3:15-4).
ويتابع بولس حديثه بمنطق سليم مفحم: "وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا وباطل أيضاً إيمانكم" (14:15)، وعندئذ تكون شهادة الرسل والكنيسة شهادة زور، وأن مصير الذين آمنوا بالمسيح هو مصير محزن لأنه "إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم." (17:15) بل أكثر من ذلك، "نكون أشقى جميع الناس" (18).
ولكن بعد هذه المقدمة المجللة، بالسواد، يقول الرسول بنبرة فرح: "ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين." (20) إن قيامة المسيح هي سر الرجاء الذي لنا كمسيحيين، لأننا من غير رجاء القيامة نكون كمن توهّم أن السراب حقيقة فتبعه في صحراء جدباء وضلّ طريقه فهلك. ولكن شكراً لله لأن القيامة حقيقة، وصلب المسيح حقيقة، ورجاءنا بل ثقتنا في الحياة الأبدية حقيقة.
وهل يا أخي القارئ لديك هذه الثقة بالحياة الأبدية؟
وهل أدركت الآن مغزى القبر الفارغ ؟
إن المسيح الفادي حيٌ وحيٌ إلى الأبد