يارب، لماذا خَلقتني فتاة؟ لماذا؟ هذا السؤال أسمعه في كلّ مرّة أدخل فيها بيت جديد لأتعرّف على
من فيه، ويكون في البيت فتاة أو أكثر أو فتاة وولد أو حتّى فتاة وحيدة. إنّه السؤال الذي يرنُّ في أذنيّ ليكسرجدار الصّمت الذي حاولت الاختباء وراءه طوال سنين، وليُدخلني في ذكريات مريرة من الماضي. ذكريات ليالٍ عديدة قضيتها في النُّواح، وأنا أتذمّر على الله وعلى خَلْقِه لي كفتاة في مجتمع لا يعتبر أنّ الفتاة هي إنسان كامل. فما هو هذا المجتمع؟:
- إنّه مجتمع يؤمن بأنّ الذي لم يُرزَق بوَلَد يحمل اسم العائلة فهو لم يُرزَق بطفل أصلاً.
- مجتمع يدعو الذي ليس عنده ولد في البيت بأنّه ليس رَجُلاً أصلاً.
- مجتمع منذ آلاف السنين يمارس عادة "وأد البنت" لينتهي من عارها ومن عار ولادتها، يدفن الفتاة منذ لحظة ولادتها وهي لا تزال حيّة.
- مجتمع يُهمِّش المرأة بل أحياناً لا يعترف بوجودها أصلاً. حقّها في الحياة مُنتَقص ففي الميراث لها نصف حصّة الذَّكَر، وفي بعض المجتمعات لا تُورَّث أبداً.
- مجتمع يمنعها من ممارسة حقّها في التّعليم والعمل.
- مجتمع لا يؤمن بقدراتها وعقلها وحُجّتها، فيقابلها بالاحتقار والسُّخرية. ولا يتوانى عن سلبها حقّها في التّعبير عن وجودها حتّى بالكلام.
- مجتمع يضعها في خانة الجنس واللهو والزِّنا والدَّعارة فقط.
- مجتمع يغتصبها، حتّى في داخل الأسرة يُعطيها رخيصة لمن يشاء.
- مجتمع يسلبها حقّها الطبيعي في الحياة بأن تعيش كاملة الجسد، فيختِنها ويُمزّق عِفّتها بتسميات عديدة يُحلِّلها لنفسه، كالشَّرف، ولتحافظ على زواجها، ولئلا تزني.
- مجتمع يرفع أصابعه دائماً بالاتّهام لها في كلّ مواقف الحياة.
إنّها مفاهيم قديمة توارثتها أجيالنا وقامت عليها حضارات عريقة. تغلغلت هذه المبادئ المغلوطة في مجتمعاتنا وأصبحت أحد الأسباب في تأخُّرنا كمجتمعات عربيّة، وهو السّبب ذاته الذي أنهضَ مجتمعات أُخرى مثل أوروبا وأمريكا. وهو الذي جعل كلمة الله مُنتَقَصة في مجتمعاتنا العربيّة بخلاف دول الخارج والمجتمعات الأُخرى. فالله القدير في الكتاب المقدس (الإنجيل والتوراة) رفع شأن المرأة ووضع لها مكانة محترمة وجعلها قدوة يُحتَذى بها حتّى من الرِّجال العظماء.
المرأة في الكتاب المقدس:
ها هي "أبيجايل" بحكمتها تمنع داود النّبي من أن يَصُبّ جام غضبه على زوجها "نابال" وعشيرته بسبب الحماقة التي صنعها زوجها (1 صموئيل 25: 24). ولتعرف أكثر عن صفاتها إقرأ (1 صموئيل 25: 2 - 3). ومثلها الملكة "أستير" التي لم تَخَفْ على نفسها بل خاطرت مخاطرة الرِّجال وقامت بدورها على أكمل وجه لتُنقذ شعبها من بَطش الملك. فتعاملت مع المهمة الصعبة التي أُوكِلَت إليها بكل حكمة واتّكال على الله، لم تكترث ولم تخَف على نفسها. (نقرأ عن أستير في سِفر أستير 4: 13 - 17. وأستير 5: 1 - 8. وأستير 7: 1 - 6.). أمّا القاضية الأولى "دبّورة" فقد قضت بالعدل وحَكَمتْ بالخير في كلّ وقت. امتلكت من الشّجاعة والحكمة والتّخطيط ما أكسبها احترام من حولها، وجعلها من بين أعظم القضاة في العهد القديم وإلى يومنا هذا. نجد لمحة عنها في سِفر القضاة 4: 4 - 14 . وماذا عن صدق حنّة وإصرارها وعدم اكتراثها باستخاف الكاهن بها وهي تبكي وتطلب طفلاً نذيراً لله، وكيف أنّ الرّب سمع وأَذِنَ وجاء أعظم نبي وهو صموئيل النّبي الذي كلَّمه الله من صغره. إقرأ سِفر صموئيل الأول 1: 6 - 20. لن ننسى الفتاة المخطوبة والتي لم تخَفْ من قتل عشيرتها لها، ومن هجر خطيبها حين يعرف بأنّها حُبلى، ولكن من الروح القدس. إنّ تصديقها لوعد الله هو ماجعل حياتنا اليوم تتغيّر بولادة يسوع المسيح من العذراء مريم. ستجد قصتها في إنجيل متّى 1: 18 - 25.
هناك الكثيرات ممّن اشتهرنَ بأمانتهنّ وإصرارهنّ وإيمانهنّ ك "نُعمي وراعوث". ونحن لم ننتهي عند العذراء المباركة مريم، ففي حياتنا الحاضرة لا يزال يوجد المزيد من النساء العظيمات اللواتي غيّرنَ تاريخ الأمم، باستقامتهنّ ومحبتهنّ وقدوتهنّ الحَسَنة لجيلهنّ. لكن متى سنكون أنت وأنا واحدة منهنّ؟ ومتى ستستطيع أنت أيها الذَّكَر أن تُغيِّر مفاهيم جيل كامل وتقوده إلى الصّواب؟؟ متى سيقف النَّبذ والكره والتّعصُّب والاغتصاب والتّهميش والمُغالاة لأولئك الفتيات في مجتمعك؟؟ متى سيكون المجتمع هو مجتمع الإنسان وليس مجتمع الذُّكورة؟؟ متى ستأخذ المرأة والفتاة والطفلة حقّها الطّبيعي الذي أهداه الله لها منذ تكوين الخليقة؟؟ ومتى ستنسى الفتيات جميعهنّ تلك الجملة القاسية: لا أريد أن أكون فتاة؟؟ ومتى ستصرخ بأعلى صوتها والكرامة تملأ قلبها ووجهها وجسدها وتقول أنا فتاة، وقد خُلِقتُ فتاة، وأنا مبتهجة لأنّ الله خلقني فتاة. أنا أريد أن أكون هذه الفتاة.