في هذه الأيام التي ضاقت فيها المدن الكبيرة بمن فيها من البشر، أصبح تأسيس بيت جديد أمراً في غاية الصعوبة، والحصول على مسكن مناسب صار غاية بعيدة يتطلع إليها شباب العالم.
وفي زحام البحث والجري وراء هذه الغاية، نسى الكثيرون القيمة الروحية للبيت، وطغى المعنى المادي على مفاهيم وأمنيات الناس.. أي أن البيت أصبح في عقولنا طوباً وطيناً.. وأساساً وأثاثاً، ثم ستائر حريرية وتلفاز ملون. وقد تختلف صورة البيت المادية من واحد إلى آخر، لكنه للجميع – مكان له باب يغلق بعد الدخول! والحقيقة أن للبيت مدلولاً أعظم من ذلك كثيراً.
يقول ألن ريتشارد: "ليست البيوت هي الأماكن التي نضع فيها ممتلكاتنا، ونأوى إليها في المساء، بل هي المسرح الذي تجري عليه أعظم حوادث الحياة: الولادة والموت، الفرح والحزن. هي مهد الطفولة، واستراحة الشيخوخة.. وإذا ساد البيت الحب والتعقل والعزم، فإنه يصير مدرسة لحضانة كل الفضائل".
وقد أحسن ألن ريتشارد إذ وضع الحب قبل العقل، وجعل العقل أساس العزم. فهل تستقيم البيوت بغير الحب؟
بيوت يسكنها الحب:
يقولون إن جمال البيت في النظام، وبركة البيت في القناعة، ومجد البيت في الكرم، وعمار البيت في المحبة. فهذه القيم جميعها تمثل أركان البيت السعيد. ومع ذلك فإن النظام والقناعة والكرم معاً، لا تصنع بيتاً سعيداً ما لم تتوج المحبة هذا البيت وتحيطه بدفئها، وتبعث فيه حرارتها. فحرارة الحب تصنع البيت السعيد.
تاه طفل صغير في شوارع المدينة الواسعة المزدحمة، وتجمع الناس حوله يتحدثون إليه، ويستشفون من كلماته القليلة ما قد يستدلون به على أسرته. وسأله أحدهم قائلاً: صف لنا بيتك، حدثنا عن كل ما فيه، عن كل ما حوله، حاول أن تذكر أين يقع؟ ولمعت عينا الطفل، وعلت وجهه ابتسامة بريئة صافية وهو يقول: أعرف مكان البيت، بيتي هناك حيث تسكن أمي!
إن دفء محبة الأم طغت على كل شيء في البيت وخارجه، إن محبتها أخفت ملامح الدنيا الواسعة، وحضورها في الذاكرة أدخل الطمأنينة إلى قلب طفل صغير تائه.
في البيوت التي يسكنها الحب يستطيع الابن (أو الابنة) أن يقول: بيتي حيث تسكن أمي.
وقد اعتاد أحد العظماء أن يقول: لم يكن لي أخ، أو هكذا يظن الناس أن لا أخ لي، ولكن الحقيقة أن لي أخاً واحداً، إنه أبي. فقد عرفته أخاً ورفيقاً مخلصاً قبل أن يكون أباً أو عائلاً أو مرشداً. وقد بدد حبه قسوة الوحدة في طفولتي وصبوتي وشبابي.
العلاقات البيتية بغير الحب:
للبيوت جدران تختفي وراءها أسرار الناس – كما تختفي أجسادهم. والناس – عادة – لا يخرجون من وراء هذه الجدران بنفس الصورة أو الشكل الذي يعيشونه في البيت، بل يضيفون ويحذفون، ويلونون ويشكلون صورهم، لتقترب – حسب الطاقة والإمكانات – من الصورة المثالية في أذهانهم التي يريدون أن يراهم الناس عليها. لكن أشياء كثيرة تكشف عن الحقائق الدفينة والمموهة، وتظهر الصورة الحقيقية التي يسترها الناس. وعلى لسان طفل صغير تكشفت يوماً لزائر غريب صورة من تلك الصور الممنوعة في بيت مضيفه. قال الطفل حين سئل عن اسمه: اسمي (الشيطان)، هكذا تدعوني أمي، أما أمي فاسمها (الغبية)، هكذا يدعوها أبي، وأبي اسمه (الشرير)، هكذا تقول لنا أمي!
وقد يبدو هذا مضحكاً، لكن البيوت التي لا يعيش فيها الحب، تتحول إلى مساكن للشياطين، ومنابع للشرور.
قال أحدهم: كان بيتنا حديقة للشوك، فأينما توجهت انغرست فيك شوكة، والأشواك كثيرة منها: إيذاء الآخرين، الحسد، الطمع، التنافس، المزاح الثقيل، عدم لجم اللسان عن الكلمات الجارحة، التوبيخات الصارمة، الذم، التهكم، والنميمة. وقد شكلت هذه الدنايا إكليلاً من الشوك غرسته أسرتي في جبين الحب.
يا ليت بيوتنا يسكنها الحب..