دعونا نتأمل في الوسيلة التي اختارها الله ليسدد بها احتياجات النبي إيليا الجسدية، فهي دليل على سلطان الله المُطلق، وتنفيذها دليل على قدرته الفائقة "كل ما شاء الرب صنع في السماوات وفي الأرض، في البحار وفي كل اللجج" (مز 135: 6 ). فهو الذي خلق كل الكائنات وغرس فيها غرائزها، ويعلم كيف يوجهها ويتحكم فيها حسب مسرته، وهي مُتكلة تماماً عليه لبقائها، لأنه هو الحامل كل الأشياء بكلمة قدرته. فالناس وكل الكائنات تحيا وتتحرك وتوجد به، لذلك فهو يستطيع وقتما يريد أن يغير قوانين الطبيعة التي أرساها. لقد نهى الرب شعبه عن أكل الغربان لأنها طيور نجسة و "مكروهة" (مز 135: 6 ؛ تث14: 14) إلا أنه استخدمها في حمل الطعام لخادمه. فما أبعد طرق الله عن طرقنا!
كما استخدم ابنة فرعون في إنقاذ الطفل موسى، واستخدم بلعام في النُطق بنبوته المميزة. كذلك أمر الرب الجوارح التي تقتات على الرمم أن تحمل لحماً للنبي في وقت المجاعة. فهل كانت الغربان تؤتمن على ذلك؟ ألم يكن ممكناً أن تلتهم هي الطعام عوضاً عن الإتيان به إليه؟ نعم، لكن ثقة إيليا لم تكن في الغربان، بل في ذاك الصادق الذي قال "قد أمرت الغربان". فهو مطمئن للخالق وليس للمخلوق، للرب نفسه وليس للآلة التي يستخدمها. فكم هو مبارك أن نرتفع فوق الظروف ونطمئن تماماً لرعايته لنا حسب وعده الصادق لنا.
لكن دعونا نتأمل حكمة الله في اختيار الوسيلة، فبطريقة طبيعية كان على النبي الذهاب إلى جدول المياه للشرب منه لأن الله لا يصنع معجزة للإنسان لكي لا يتعب في الحصول على قوته أو ليساعده على الكسل واللامبالاة. أما بالنسبة للطعام، فإنه لا يوجد في البرية، لذلك كان الله مسئولاً أن يوجده له بطريقة معجزية "قد أمرت الغربان أن تعولك". فلو استخدم البشر في هذه المهمة ربما أفشوا سر مكانه، ولو استخدم الحيوانات الأليفة في الذهاب إلى النبي، ربما لاحظها الناس في هذه الرحلات المنتظمة صباحاً ومساءً حاملة الطعام، فدفعهم فضولهم للتحري عن ذلك. وأما أن تطير الطيور حاملة الطعام، فإن الناس ستعتقد أنها حاملة إياه لفراخها. كم الله حريص على سلامة أولاده، وحكيم في ترتيباته لهم، مُبعداً عنهم كل الأخطار!