يفترض القاضي عند النظر في الخصومة وجود عداوة بين طرفي النزاع باستثناء المناظرات والمجادلات الفلسفية. إن القضايا الفلسفية قضايا فكرية تبحث الحقائق الغامضة، وبدايات الكون، والمتغيرات الآنية، والنهايات المجهولة. إنها كالعلم تتسع لكل الأفكار وترحب بكل المجهودات. وعلى سبيل المثال فإن فكرة الألوهية عند أفلاطون تتكامل بمنطق أرسطو. هل هذا يا ترى ما ينطبق على علم الدين المقارَن؟ لقد اختلف الفلاسفة فمنهم من نقد الآخر أو أضاف بعض المفاهيم، لكن لم يتشاجروا ولم يتحاربوا. أما الديانات التي تنادي بالله وبالأخلاق فقد حملوا السلاح الواحد ضد الآخر. وما أدراك ما يحدث في دائرة الدين الواحد حتى في عصور التقدم والسرعة.
شهد القرن الماضي نهضة فكرية وتقنية بسبب تقارب الدول، وإلغاء المسافات، وسرعة نقل المعلومات، وتدفق الاختراعات، وتداخل العلوم، وصحوة الشعوب، وتعقّل الحكام. ونقب القرن الحالي التراث القديم وأشهر الأبحاث المعاصرة. وكان لا بد للأديان أن تتبنى سياسة الحوار البناء والتعايش السلمي وهجر فلسفة الإعلاء والعداء. عندئذ بدأت فكرة ”المبادئ الدينية المشتركة والاتفاق المسبق على بديهيات علمية وأساليب دينية“ لإنجاح المناقشات والمجادلات، وما زال البحث مستمراً. إن الإنسان ما زال يعبر الجسر الهش بين الحقيقة والخيال، بين المنظور واللامنظور، بين الملموس والمثالية، بين الطفولة والنضج، بين البرمجة والمجهول، وبين أن يكون وأن لا يكون. إنها فلسفة صراع الأضداد والبقاء لله وحده.
على كل حال، نتفق جميعنا على مصدر منطقي للخلق إلا إذا كنا من الجاهلين، وأن الله واحد، وأن الإنسان مخيّر ومصيّر في آن واحد، وأن الحياة قصيرة، والموت انتقال إلى عالم آخر. ويبقى هنا ضرورة الحجة والإقناع. إن الإقناع بالمناقشة غالباً ما يفشل، فالإيمان مسألة تتعلق بالقلب والعاطفة، بالقبول أو الرفض. إنها السيكولوجية الإلهية الفنية التي غرسها المولى عز وجلّ في الضمير الكوني.
إنها قصة الترغيب والتهديد، الثقافة والتأثير، المعاملة والتغيير. إن الدين هو تجسيد الأفكار حول المنطق الإلهي.
وفشلت نظرية الدين كظاهرة اجتماعية فقط لأن الدين ينبع من أعماق الإنسان بل ومن مصدر خارجي أيضاً. ينبع من الكيان البشري من إدراك الإنسان لنفسه ومن استخدام عقله وحقيقة مصيره. أي إن الدين شعور داخلي وقوة سرية تتعلق بالضمير وتقاس بذاتية شخصية خارجة عنه. إنه مسألة روحية وتجربة ذاتية وضرورة طبيعية لإنماء الشخصية الاجتماعية بعيداً عن التعصّب كما رسمها المسيح الذي قال:
”تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم... تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم“.
والآن، هل أنت ممن يرى الخطأ صحيحاً؟ أو من أصحاب الأحكام المسبقة؟ إنه يستحسن عدم الدخول في النقاش بدون شيء يستحق النقاش، وأن تلم بالموضوع ضمن أساسيات مرتبة.
قال صاحب الأمثال: ”لا تزرع بذرة شتوية بالصيف“. إن القمع يزيد حدة الاختلاف، أما الحب والسلام ووجود مرجعية مشتركة يعمّق القيم الموروثة، ويبني الأهداف البنّاءة، ويطوّر تقنيات فردية ذات قناعات مشتركة.