لم أكن أعلم إطلاقًا وأنا أدخل هذا المكان لأول مرة في حياتي لشراء ما أحتاجه، أنني سأشاهد كل هذه الأحداث المثيرة النادرة في كل ما رأيته طوال عمري.
كانت الساعة 9.20 من ليلة الخميس 14-8-1997م، وكان المكان يزدحم عن آخره ويفيض .. كيف لا وقد كان هذا المكان هو "الحرية مول" ذو الطوابق السبعة في قلب مصر الجديدة؛ أحد أحياء القاهرة الكبيرة. لا مكان لقدم، السلالم الكهربائية تكاد تترنح من الازدحام، فالغد هو الجمعة، أي يوم عطلة، بالإضافة إلى أن المدارس والجامعات على الأبواب.
كانت غالبية من رأيتهم من المتسوقين في العشرينات من عمرهم أو في سن المراهقة .. ها هم يضحكون، يمرحون، يسخرون .. يدٌ تدخن أو تأكل الأيس كريم، والأخرى تُشير، الغالبية منهم يقصدون الطابق الثاني والثالث. فجأة حلَّ الظلام الدامس؛ لقد انقطع التيار الكهربائي .. رنَّ جرس إنذار الحريق .. فسمعتهم بجانبي على السلم يضحكون ويرسلون الصفير. قال واحد:
- «فرصة؛ إنها ليلة رأس سنة أخرى في شهر أغسطس!»
وسمعت صيحات .. همسات .. ضحكات بينما كان جرس إنذار الحريق يعلو ..
تمنيت الهروب ولكن كيف ولا يوجد شعاع واحد من الضوء .. استرشدت بمسند السلم، وجاهدت لأعبر الحواجز البشرية التي كانت تتلاطم كأمواج غير مرتبة داخل الظلام .. وكانت ألسنة النيران قد بدأت تعلو في الطابق الأول، وبخلاص الله لي عبرت، وفي أقل من دقيقتين كنت خارج الباب، ولم أُصب بأذىً، غير أن الدُّخَان حوَّل يديّ ووجهي وملابسي إلى اللون الأسود أو الرمادي الداكن.
كنت تقريبًا من أوائل الهاربين من هذا الجحيم. الكل في الشوارع المحيطة يجري. أُغلقت أبواب جميع المحلات المحيطة. الكل يتساءل، أو يصرخ، أو يضحك إن كان من المخمورين أو المُخدَّرين.
وفي دقائق أخرى صار المكان حول المبنى مسرح عمليات؛ آلاف من البشر حول المبنى، البعض للاستطلاع، والأكثرية يصرخون على ذويهم بالداخل. وما أن بدأ المحجوزون في الداخل في كسر زجاج المبنى حتى قفزت منها ألسنة اللهيب وغيومها السوداء. فإن الدخان المضغوط في الداخل كان يخنق الكل حتى النيران نفسها، وعندما كُسر الزجاج أعطى فرصة للنيران لإعادة ترتيب نفسها.
وفي غيوم اللهب كانت صرخات من يحتضرون بالداخل تعانق في رثاء وأسىً ومرار صرخات من بالخارج، والكل يختنق بالدخان الذي كان يتمايل في كبرياء حول النار عند كل مرة يُحطم الزجاج والكيان والحياة .. فاللهيب يعلو حتى فوق الدور السابع.
لا أنسى ما قاله لي شاب سورِي نجا، ووقف بجانبي ونحن في الخارج، إذ قال لي:
- «هل تشتم معي رائحة عظام من بالداخل؟ كم هي رائحة كريهة!»
استمر الحال حتى الرابعة فجرًا، وحسب الإحصائيات الرسمية أصيب واحترق ومات أكثر من 270، منهم رجال إطفاء.
وفي الدور السابع حيث سينما الحرية مول 1 ،2؛ قال واحد ممن أُنقذوا بأعجوبة:
- «كنا نشاهد فيلمًا وكان البطل يحارب ثعبانًا رهيبًا، فأظلمت الدنيا، وظننا أنها خدعة سينمائية جديدة. ضحكنا، ولكن تحول الضحك سريعًا إلى بكاء حينما انقلب الفيلم في الحال إلى حقيقة مُرة، حتى لم يبق مقعد خشبي واحد إلا وصار رمادًا واحترق. حتى حديد المقاعد تحول إلى وهج شديد الاحمرار».
كانت الطفلة "ماريا طارق عياد" التي كانت في رفقة أمها، أصغر من ماتوا، كما أصيب "مايكل" (5سنوات)، و"سارة" (8سنوات)، أبناء خالتها. بينما لفظ العريس الخطيب أخر أنفاسه بين يدي مخطوبته.
لقد كان الأمر مريعًا، لدرجة أنني لم أستطع أن أكتب هذه المقالة طوال ستة شهور بعد الحادث بسبب تأثري بما رأيت. سألت نفسي بعدها:
- «لماذا يحدث هذا في المرة الوحيدة التي أدخل فيها هذا المكان؟». والإجابة:
- «إنها إرادة الله»!
ولكن، بلا شك، ما حدث غرس في داخلي بعمق أكثر إدراكي لزيف هذا العالم وزيف حريته، مشترياته ومغرياته، لذاته وشهواته، نزهاته ورحلاته .. الكل يتحول ويتغير في لحظات .. حتى فيلم السينما صار حقيقة!! لقد كان الأمر رهيبًا، حتى أن المكان سُمي بعد ذلك في الصحف "الحرية موت".
صديقي .. صديقتي، هل تعرف المعنى الحقيقي للحرية؟ إن الحرية ليست هي أن ألقي بنفسي في قلب الرذيلة أو المخدرات أو النجاسة أو في أحضان الشر .. إن هذه هي العبودية بعينها؛ هي "الحرية موت" التي ستحترق لذاتها، بينما تبقى سلاسلها أكبر وأثقل، فتصير عبدًا للشهوات أو الإدمان أو .. أو .. ثم، وللأسف، تحترق أنت معها {إذ يصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين} (رؤيا11:14).
إن الحرية الحقيقية هي في المسيح، الذي قال في إشارة لقدرته {إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا} (يوحنا 36:8) إنه يحررك لأنه رُبط لأجلك في مشهد الصليب (يوحنا 12:18)، بل سُمر عليه (مزمور 16:22).
نعم! بل احترق لأجلي ولأجلك على الصليب. اسمعه يصرخ: {صار قلبي كالشمع قد ذاب في وسط أحشائي}، فهل تهرب إلى المسيح من لهيب وحطام هذا العالم والجحيم؟ قبل أن تحترق الأرض والمصنوعات التي فيها (2بطرس10:3).
صلاة:
يا من حُرقت على الصليب بدلاً مني ..
استلم قيادة حياتي الآن لتنقذني وتحررني من العالم وقيوده،
وتغسلني بدماك لأسير معك إلى السماء..
آمين.