حوادث متكررة، وأوجاع مستمرة، ضحاياها الفقراء من إخوتنا الطيبين البسطاء. وهذه المرة مأساة بكل المقاييس؛ فمن يساعد "جمالات" الآن؟ ومن تكون"جمالات"؟ إنها بائعة "العيش الفلاحي" التي كانت تعده في بيتها، وتحمله على رأسها إلى أحد الأسواق في مدينة "الجيزة"، لتبيعه، وبالجنيهات القليلة التي تكسبها تعول زوجها المشلول وأحفاها اليتامى الذين راح أبوهم وهو ابنها ضحية في حادث قطار سابق.. في ذلك اليوم الشرير استيقظت جمالات مبكراً كعادتها، لتوقظ زوجها، ولتلقي نظرة وكأنها الأخيرة على أحفادها، فراحت تحتضنهم بقوة وكأنها تودعهم، وأوصت رجلها وصية تعكس أصالتها وثقافتها قائلة له: "خذ بالك من العيال يا راجل، إنت ماليكش بركة إلا باليتامى"، ثم تركت له 10 جنيهات كي يشتري إفطاراً له ولهم، وودعتهم مسرعة لتلحق بالسوق.. وهكذا قضت "جمالات" يوماً طويلاً متعباً ومرهقاً. لكن سرعان ما حلت الراحة والفرح مكان التعب، بعد أن باعت كل الخبز وعادت لتستقل القطار، ولم تنسى أن تشتري بعض الفاكهة وبعض الحلوى الرخيصة لأحفادها وزوجها، الذين ينتظرونها على أحر من الجمر.. ولكن "جمالات" لم تعد ولن تعود بعد ذلك اليوم!! فبعد ارتطام الجاموسة بالقطار، توقف فجأة، فأسرع الركاب إلى الأمام لمعرفة الأسباب، إلا إن إرهاق "جمالات" لم يجعلها قادرة على الحراك، ليأتي قطار الموت الثاني من الخلف ليحيلها إلى أشلاء امتزجت بحلوى الأحفاد وفاكهتهم التي لم يروها ولم يتذوقوها.. هذه واحدة من عشرات القصص الحزينة التي خلفها قطار الموت! ففي "مشرحة زينهم" وراء كل جثة قصة، والذي يهمنا في "الطريق" ليس البحث أو التحري عن السبب الرئيس لحادث سقوط القطار، جاموسة كانت أم حماراً! لكن الذي يهمنا جداً أن يدرك قارئ الطريق العزيز: أن هناك أشياء تسقطنا وتقتلنا بل وتميتنا، والموت وارد وحقيقة، لكن ما نحذر منه ونصرخ لأجله ليس الموت الأول "الجسدي" الذي تسلل فجأة لجسد جمالات وغيرها، بل الموت الأبدي الذي هو الطرح في بحيرة النار "هذا هو الموت الثاني"(رؤيا14:20).
فهناك أشياء تسقطنا من الطريق وتحرمنا من الوصول إلى محطتنا المقصودة وغايتنا المنشودة، ويجب أن لا نغفل هذه الأشياء، ليس بالضرورة أن تكون أشياء ضخمة كبيرة كالجاموسة، لكن قد تكون صغيرة كالناموسة، لذلك نحن هنا نحذر ليس فقط من الكبار بل من الصغار! أشياء تبدو قليلة وصغيرة لكن في واقع الأمر ضارة وخطيرة، ومن هذه الأشياء:
(1) الثعالب الصغار: " 15خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة الكروم" (نشيد 15:2) وماذا تفعل هذه الثعالب الصغيرة إذا دخلت الحديقة؟ سوى أن تسقط بل وتفسد الأثمار. فإذا سمحنا بدخول واحد من هذه الثعالب الصغيرة إلى حياتنا كثعلب الزنا والنجاسة، الهوى والشهوة الردية، الحسد أو الكراهية، ظن السوء و روح الكبرياء لتعطل ثمرنا الروحي، وتوقف نمونا، وأطفأ أشواقنا المقدسة وقادنا ذلك إلى السقوط. ونذكر هنا شمشون الذي لم يستطع أن يسقطه الكبار من أقطاب الفلسطينيين بل أسقطته دليلة التي أحبها، وكان النوم على ركبتيها وموس الحلاقة الناعمة أقوى وأخطر من الأسود التي قتلها؛ فلنتحذر من الثعالب، الثعالب الصغار..
(2) الخميرة الصغيرة: "ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمر العجين كله؟"(1كورنثوس6:5) والخمير في الكتاب يشير إلى الشر الأدبي أو الشر التعليمي، وكلاهما خطر على حياتنا الروحية، لذلك علينا أن نتحذر من "خمير"تعليم" الفريسيين والصدوقيين"(متى 6:16) الذي هو الرياء، وعدم الإيمان بقيامة الأموات، فلابد أن تكون سيرتنا وسلوكنا خالياً من الشر، يقول الرسول بولس: "لا تضلوا فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة"(اكورنثوس33:15).
(3) النوم القليل: "10قليل نوم بعد قليل نعاس، وطي اليدين قليلاً للرقود، 11فيأتي فقرك كساع وعوزك كغاز".(أمثال 10:6 – 11) والنوم القليل وطي اليدين صورة للكسل والتراخي، الذي يقود إلى الفقر والاحتياج، بل ويقود صاحبه إلى السقوط في أشنع الخطايا مهما علا شأن هذا الإنسان، ونحن نذكر هنا داود الملك يوم أن ظل في البيت نائماً كسولاً ولم يخرج في يوم الحرب، كيف سقط في خطية الزنا فتغيرت حياته بل وتاريخه كله بعد هذا السقوط. لقد نام الشاب أفتيخوس في وقت الاجتماع حيث كان الرسول بولس يعظ عظته الأخيرة في ترواس، فسقط أفتيخوس من الطبقة الثالثة إلى أسفل وحمل ميتاً.(أعمال20). كما نام بطرس في وقت لا ينبغي فيه النوم بل السهر فسقط سقطته الشهيرة وهي إنكار سيده. يقول الكتاب: "السكير والمسرف يفتقران، والنوم يكسو الخرق" (أمثال21:23)..
(4) الجهالة القليلة: "الذباب الميت ينتن ويخمر طيب العطار. جهالة قليلة أثقل من الحكمة ومن الكرامة." (جامعة 1:10) وحسناً لو قرأنا الآية كما جاءت في الترجمة التفسيرية: "كما أن الذباب الميت ينتن ويخمر طيب العطار، هكذا تفعل الجهالة القليلة بمن اشتهر بالحكمة والكرامة" فالمسيحي الحقيقي يتصف بالحكمة لأنه تعرف على المسيح الحكمة عينها، "المسيح الذي صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء"(1كورنثوس30:1). لقد أوصانا سيدنا أن نكون حكماء كالحيات، والحكمة التي نتعلمها من الحية هي الابتعاد عن الخطر، فكم من المرات تمررنا، لأننا في أمور غيرنا تدخلنا، يقول الكتاب في هذا الصدد: "كممسك أذني كلب، هكذا من يعبر ويتعرض لمشاجرة لا تعنيه"(أمثال17:26) وداود الملك كان له موقف جهالة، وذلك عندما ترك شعب الرب، وهرب إلى ملك جت وهناك غير عقله، وتظاهر بالجنون، وأخذ يخربش على مصاريع الباب، ويسيل ريقه على لحيته، ولا ندري كيف أتى بريق في هذا الموقف الذي ينشف الريق؟..(1صموئيل21), وهكذا فعل النبي أساف عندما غار من الأشرار ومن غناهم ونجاحهم الزمني، لكنه عندما أفاق من جهله صرخ قائلاً: "أنا بليد ولا أفهم صرت كبهيم عندك"(مزمور 10:73)..
(5)العضو الصغير: " 5هكذا اللسان أيضاً، هو عضو صغير ويفتخر متعظماً. هوذا نار قليلة، أي وقود تحرق؟ 6فاللسان نار! عالم الإثم"(من رسالة يعقوب أصحاح 3) فاللسان ذلك العضو الصغير مشبه بنار قليلة، ومهما كان الوقود كبيراً فإن هذه النار القليلة كافية لأن تحرقها كلها، فكم من كلمات نطقنا بها حطمت غيرنا وأبعدتهم، بل ومن سماع رسالة الإنجيل حرمتهم، فلندقق إذاً في كلماتنا فكم من حروب كبيرة أشعلتها كلمات قليلة، وكم من بيوت كانت يوماً مثالاً للاستقرار والسعادة لكن بسبب كلام جهل وحماقة، وفي ثورة غضب وتهور أحد الزوجين كانت سبباً في انفصالهما، وتشرد أولادهما، لذلك علينا أن نطلب صارخين: "اجعل يا رب حارساً على فمي. احفظ باب شفتي"(مزمور 3:141) لقد قال أحدهم لم أندم أبداً على موقف صمت فيه، لكن ندمت كثيراً على مواقف تكلمت فيها، وليتنا أيضاً أن لا نتحدث بالسوء على أحد من خدام الرب مهما كانت ضعفاتهم، فهذا شر عظيم، ولنتذكر أن الأرض فتحت فاها وابتلعت قورح وجماعته عندما تكلموا على موسى وعلى هارون، وازدروا بالرب(عدد16)، كما أن الرب ضرب مريم بالبرص عندما تكلمت على موسى أخيها، وكانت سبباً في تأخر الشعب عن السفر لمدة 7 أيام (سفر العدد12).
القارئ العزيز: الكلام مثل الورود والعطور، التي تخطف الأبصار وتنعش الصدور، فليتنا نقطف أجمله، وننشر أعطره، ولا نقل إلا أفضله. وليتنا نتحذر من الأشياء التي تبدو صغيرة، لكن لها نتائج مدمرة وخطيرة..
تحليل مصري طريف
يقول التحليل: إن السبب الرئيسي لسقوط قطار العياط هو: أن جاموسة "مختلة عقلياً" ضايقها حمار؛ فركضت وتعرضت لـ"ماس كهربى" أدى إلى سقوطها قضاء وقدراً أمام القطار!