مفهوم الارتداد في الكتاب المقدس
الارتداد هو ترك الرب والرجوع إلى الخطية. وقد وضح هذا المفهوم أشعياء النبي بقوله "تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى الوراء" (اش4:1).
ولكي نفهم الأمر جليا، يجب أن نعرف أن هناك نوعيين من الارتداد:
1- ارتداد إلى حين.
2- وارتداد دائم.
( 1 ) الارتداد إلى حين:
فالمؤمن القلبي الذي قبل الرب في حياته مخلصاً وفادياً وملكاً قد ينتابه ضعف فيسقط في الخطية وقد يرتد. ولكن هذه الحالة لا تدوم طويلاً إذ سرعان ما يبكته روح الرب، فيستجيب لهذا التبكيت ويندم تائبا ويرجع إلى حضن أبيه ثانية. ولتوضيح هذا النوع من الارتداد نتكلم عن: جوهره، ونهايته.
( أ ) جوهره: هذا النوع من الارتداد هو حالة سقوط ناتجة عن الضعف البشرى الذي يلازم المؤمن الروحاني، كما قال القديس أوغسطينوس:
[إن المعمودية تغسل كل الخطايا … ولكنها لا تـنزع الضعف البشرى الذي يظل المتجدد يقاومه في جهاد حسن، هذا الضعف الذي نقاومه بين سقطة وقيـام حتى المـوت، سينتهي بتجديد آخر (في مجيء الرب الثاني).]
( N.& P. Fars 1st Sers vol. V P.404.)
فهذا النوع من الارتداد ليس ناجما عن قساوة قلب وعناد، ولا عن استباحة واستهانة وإنما هو نتيجة الضعف البشرى الذي يلازم المؤمن الروحي.
(ب) نهايته: إن هذا النوع من الارتداد يستجيب فيه المؤمن لتبكيتات الروح القدس فيتوب ويعترف بخطاياه ولذلك فهو غالبا ما يؤدي إلى العودة والتوبة لا إلى الهلاك. إذ هو ارتداد إلى حين ينتهي برجوع المؤمن إلى نفسه فيستيقظ بعد غفلة ويقوم ويرجع إلى أبيه. والكتاب المقدس يوضح ذلك في مواضع عدة:-
+ يقول سليمان الحكيم "الصديق يسقط سبع مرات ويقوم" (أم16:24).
+ وداود النبى يزيد على ذلك قوله "إذا سقط لا ينطرح (لا يهلك) لأن الرب مسند يده" (مز24:37).
لهذا يقول ميخا النبى "لا تشمتي بي يا عدوتي إذا سقطت أقوم، إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي" (مى8:7).
+ وارميا النبى يقول عن مثل هؤلاء "هل يسقطون ولا يقومون؟ أو يرتد أحد ولا يرجع ؟" (أر4:8).
من هذا نرى أن المؤمنين الروحانيين الذين يسقطون عن ضعف إن تابوا لا يهلكون بل على العكس من ذلك فقد قال الرب عنهم: "أنا أشفى ارتدادهم أحبهم فضلاً" (هو4:14).
لهذا فهم يهتفون مع بولس الرسول قائلين "أما نحن فلسنا من الارتداد للهلاك بل من الإيمان لاقتناء النفس" (عب39:10).
وعن هؤلاء قال القديس يوحنا ذهبي الفم:
[المؤمن الذي من هذا النوع إذا أخطأ تحت ظروف معينـة سرعان ما يرجع إلى نفسه حتى وإن عاش فترة متلذذا بحياة الشر، فالله الذي يعرف كل شئ لا يتغاضى عنه وإنما يسرع وينقذه …فداود النبي الذي ارتكب جريمتي زنا وقتل، إذ قد فعل ذلك لظروف معينة، وليس نتيجـة لممارسـة الشـر كشيء مألوف واعتيادي في حياته سرعان ما قام واغتسل من هذه الخطية.
(N. & P. Fars 1st Sers vol. x1 P. 466)
وجميل أن يميز يوحنا ذهبي الفم بين من يمارسون الشر في حياتهم كشيء مألوف اعتيادي وبين المؤمنين الروحانيين الذين صارت الخطية بالنسبة لهم شيئاً غريبا ممقوتاً لأن قلوبهم قد تغيرت وأصبح لها طبيعة المسيح التي تبغض الإثم. فإن هم سقطوا في الخطية كان ذلك نتيجة ضعف أعقبه حزن وتبكيت ثم توبة وقيام.
ويضع العلامة أوريجانوس تشبيهاً جميلاً لهذه الحالة فيقول:
[لكي نظهر طبيعـة السقوط والارتـداد نذكـر تشبيـها مناسبا للتوضيح: هب أن شخصا تعلم فنا أو علما كالهندسة أو الطب حتى أتقنه ... فهل من المعقول أنه إذا نام يستيقـظ جاهلاً؟!. فمن الطبيعي أنه إذا واظب المهندس أو الطبيـب عـلى دراسة فنه وممارسته عمليا يحتفظ بمعلوماته، ولكنه إذا أهمـل ذلك فسوف يفقدها بالتدريج حتى يأتي عليه وقت تنمـحي من ذاكرته تماماً. على أنه من الممكن معالجة الأمر في بدايته، فمـن يرتـد مستسلما لعوامل الكسل والإهمال التي تبدو بسيطة في أولها، إن هو قام ورجع إلى نفسه بسرعة، واصلـح الخسائر التي مازالت حديثة إلى ذلك الوقت ، نجا من خطر الارتداد. هكذا الحال مع أولئك المؤمنين الذين كرسوا ذواتهم لله.]
(Ante N. Fars vol. 1x P.256)
وما أجمل ما قاله القديس أوغسطينوس أيضا في هذا الصدد:
[إننا مدينـون بالخطايا … ربما تقولون: وأنتـم أيضـاً أيها الأساقفة مدينون بالخطايا؟ أجيب نعم نحن أيضا. "فإن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسـنا وليس الحق فينا" (1يو8:1).
إننا قد اعتمـدنا ومع ذلك فنحـن مدينـون، ليـس لأن المعمودية لم تغفر شيئا ما، بل لأننا نصنع ما يحتاج إلى مغفرته يوميا، فالذين اعتمدوا وانتقلوا في الحال من هذا العالم، خرجوا بدون خطية ... وأما الذين اعتمدوا وبقوا في هذه الحياة فإن لهم نجاسات بسبب ضعفهم الجسدي والتي رغم كونها لا تسبب غرقا للسفينة (أي هلاكا) إلا إنها تحتاج إلى مضخة لتنـزحها، لئلا يتسرب إليها قليلاً قليلا حتى يؤدى إلى غرقها.]
(الحب المقدس جزء 1 ص 325).
وقد ضرب السيد المسيح مثلاً توضيحيا لحالة الارتداد إلى حين وهو مثل الابن الضال، الذي ترك بيت أبيه وذهب إلى كورة الخنازير وقضى فيها زمان ارتداده، وأخيرا رجع إلى نفسه وعاد ثانية في توبة صادقة ليجد أباه في انتظاره مشتاقا ليعيد إليه رتبته الأولى. (11:15ـ24).
كان هذا عن النوع الأول من الارتداد:
فهو ارتداد إلى حين (أر4:8)
ليست نهايته الهلاك (مز24:37)
إذ يعقبه توبة وندامة المرتد (مز51)
دعنا إذاً نرى النوع الثاني من الارتداد وهو :-
(2) ارتداد دائم:
هذا النوع من الارتداد يشير إليه الرب في تساؤل حزين على لسان أرميا النبى إذ يقول "لماذا ارتد هذا الشعب ارتداداً دائما ... أبوا أن يرجعوا ... ليس أحد يتوب عن شره." (أر5:8،6).
ولإيضاح هذا النوع من الارتداد علينا أن نفهم أيضا: جوهره ، ونهايته:
( أ ) جوهره: إن الارتداد الدائم هو حالة رفض الإيمان بالمسيح واحتقاره، وهو أيضا ازدراء بروح النعمة وسقوط منها.
يوضح ذلك بولس الرسول في قوله " قد تبطلتم عن المسيح ... سقطتم من النعمة." (غل4:5).
ويقول أيضا "كم عقابا أشر تظنون أنه يحسب مستحقا من داس ابن الله وحسب دم العهد الجديد الذي قدس به دنسا وازدرى بروح النعمة" (عب29:10).
ويهوذا الرسول يقول "يحولون نعمة إلهنا إلى الدعارة، وينكرون السيد الوحيد الله وربنا يسوع المسيح" (يهوذا 4).
لهذا يحذرنا بولس الرسول من خطر هاتين الحالتين فعن الحالة الأولى وهو رفض الإيمان يقول: "انظروا أيها الاخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي." (عب12:3).
وعن الحالة الثانية وهى السقوط من النعمة يقول: "ملاحظين لئلا يخيب أحد من نعمة الله." (عب15:12).
( ب ) نهايته: نهاية الارتداد الدائم معروفة وهى الهلاك.
وقد وضح بولس الرسول ذلك بكل جلاء إذ قال عن قوم مرتدين. "كثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مراراً، والآن أذكرهم أيضا باكيا وهم أعداء صليب المسيح الذين نهايتهم الهلاك." (فى18:3،19).
وبطرس الرسول يقول: "لأنه إذا كانوا بعدما هربوا من نجاسات العالم بمعرفة الرب والمخلص يسوع المسيح يرتبكون أيضا فيها فينغلبون، فقد صارت لهم الأواخر أشر من الأوائل. لأنه كان خيراً لهم لو لم يعرفوا طريق البر من أنهم بعدما عرفوا يرتدون عن الوصية المقدسة المسلمة لهم قد أصابهم ما في المثل الصادق كلب عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة (أي طين) الحمأة (أي الوحل)." (2بط20:2ـ22).
فالارتداد الدائم إلى حياة الدنس واحتقار ابن الله والازدراء بروح النعمة، إن لم يعقبها توبة أو رجوع كما يقول أرميا النبي "أبوا أن يرجعوا … ليس أحد يتوب عن شره." (أر5:8،6). لابد أن يعقبها هلاك أبدى (نهايتهم الهلاك). (فى19:3)، لأن السيد المسيح قال "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لو13: 3).
والآن بعد هذا الإيضاح لفئات المؤمنين، وأنواع الارتداد نستطيع أن نجيب على السؤال الجوهري وهو:
هل يمكن أن يرتد المؤمن ويهلك؟
فنقول أن هناك فئـتين من المؤمنين المرتديين ولكن نهايتهم ليست واحدة:-
( 1 ) مؤمنون قد يرتدون ولكنهم يتوبون:
وهم الذين يرتدون إلى حين، فإذ يسقطون عن ضعف يبكون تائبين. أولئك هم المشبهون بالأرض الجيدة أصحاب القلوب المتجددة، والثمار المتكاثرة. السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح.
( 2 ) مؤمنون يرتدون ويهلكون:
وهم الذين يؤمنون إلى حين (لو15:8). ويرتدون ارتدادا دائما (أر5:8،6).
وإذ يحتقرون المسيح ويسقطون من النعمة لا يتوبون ولا يرجعون. أولئك هم المشبهون بالأرض المحجرة والمليئة بالأشواك.
أخي يامن قبلت الرب في حياتك تمسك ببداءة الثقة الثابتة إلى النهاية، كما يقول معلمنا بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين (عب14:3). وإن كنت قد أقبلت إلى المسيح حقا فهو لا يخرجك خارجا.(يو37:6).
ملحوظة:
حيث أن الإنسان لا يعرف يقينا نوعية إيمانه إلا إذا وصل النهاية، لهذا ينبغي أن يحذر لئلا يسقط، كما قال الكتاب "من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط" (1كو10: 12)
ولهذا قال الكتاب "الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت10: 22)
الدكتور القس / مجدى خلة.